دراسات إسلامية

تعليم اللغات الأجنبية ومستوى الدارسين للعربية

بقلم : الدكتور رمضان عبد التواب  

  

 

  

 

 

       إننا حين ننادي بإعلاء شأن العربية الفصحى، والرجوع بها إلى عصرها الذهبي، عندما كان المثقَّف العربي قادرًا على امتلاك ناصيتها، والتعبير بها عن مواقف الجدّ من القول، في شؤون حياته، واتخاذها وعاءً محبَّبًا لديه يصب فيه أفكاره وأحاسيسه وانفعالاته – عندما ننادي بكل هذا، فإننا لا ننتقص من تعليم اللغات الأجنبية بحال من الأحوال.

       ولكن أكرر هنا هذه العبارة المأثورة: "من تعلَّم لغة قوم أمن مكرهم". ولن يُغريَني أو يُغريَ أمثالي ممن يعرفون قيمة هذه اللغات، ما نراه من السُّبل الميسَّرة، والحياة الطيبة في الدنيا، لمن يعرف شيئًا من هذه اللغات الأجنبية الحية، تلك الحياة التي تُغري بعض شبابنا المتطلع، إلى بذله الجهد الكبير، وسهر الليالي الطويلة في تعلم لغة أجنبية على حساب لغته العربية.

       ولكنني على العكس من ذلك أشبه الذي يعرف لغة واحدة، بمن يجلس في حجرة مظلمة، قد فتحت فيها كوة صغيرة، يدخل منها الضوء، فهو في هذه الحجرة، يرى على قدر الضوء الداخل من تلك الكوة الصغيرة، فإذا فتحت كوة أخرى اتضحت أمامه الرؤية أكثر، ومع كوة ثالثة تزداد الرؤية. وكلما زادت الكوى المفتوحة، زادت الأشياء وضوحًا من حوله.

       وهذا مثال من يعرف أكثر من لغة من لغات البشر، حية كانت أو ميتة؛ فإن هذه اللغات، تُعَدّ نوافذ على الحضارات، والأفكار، والعادات، والقيم، والعقليات التي لأصحاب تلك اللغات.

       ولن تكون هذه المعرفة مثمرة حقًا، إن لم يبرز أثرها في نقل ما عند الآخرين من آداب وفكر وفلسفات. وهذا يعني قدرة المتعلم على الترجمة البارعة من تلك اللغات التي تعلمها، إلى لغته الأصلية، لكي يُفيد مواطنيه الذين لايعرفون ما عرفه هو.

 

ميزان خاطئ

       وهذا الهدف في ذاته جدير بأن يقلب ميزان النظر إلى تعلم اللغات الأجنبية في بلادنا رأسًا على عقب، فإنه يتطلب منا أن نعد الدارس للغات الأجنبية في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، إعدادًا جيدًا في اللغة العربية، نحوها، وصرفها، وأساليبها، ودلالة ألفاظها، وتراكيب جملها وعباراتها، حتى يتمكن من ترجمة ما ينفع من تراث الأمم الأخرى إلى العربية الفصحى، بأسلوب عربي، وبيان ناصع، لايُحمَل مفَكَّكة، وعبارات مشوّهة، وأسلوب ركيك، يبدو فيه ثوب اللغة الأجنبية، ورداء الأساليب الأعجمية، وقد غطى على كل ما تملكه العربية من فصاحة وبلاغة.

       وإن مقياس الترجمة الصحيحة في أية لغة من اللغات، هو أن تقرأ النص المترجم، فلا تحس فيه بشيء غريب عن اللغة التي ترجم إليها. وإنني لست أغالي إذا قلت: إننا نطلب من المترجم في كثير من الأحيان، أن يكون في اللغة التي يترجم إليها، أقوى من اللغة التي يترجم منها، لأنه في الأولى يصوغ العبارات والجمل والأساليب، وفي الثانية يفهم. والصياغة عمل يتخطى مرحلة الفهم. والأمران مرتبطان بموضوع التذكر والاسترجاع، وصلتهما بالنفس البشرية، وقد أثبتت بحوث علم النفس أن عملية التذكر في اللغة، أيسر من عملية الاسترجاع، فإنك قد تقرأ نصًا فتتذكر المعاني التي لألفاظه. أما أن تسترجع نصًا لمعنى عندك، أي أن تصوغ هذا النص ليدل على ما تريد بصورة كاملة، فهو أمر يصعب على من لم يحصل قدرًا كافيًا من اللغة التي يصوغ فيها أفكاره.

       يجب إذن أن يكون الهدف من تعلم اللغات الأجنبية، هو عَقْد الصلة بينها وبين العربية. وقد كان غموض هذا الهدف في أذهان القائمين على تدريس اللغات الأجنبية في بلادنا، مؤديًا إلى انفصال كامل، وقطيعة مزرية، بين المجيدين لهذه اللغات من أبنائنا ولغتنا العربية. وقد أصبحنا وكأننا نزيد الأجانب عندنا أجنبيًا آخر، حين نخرج طالبًا لايجيد إلا لغتهم، ويجهل اللغة العربية الفصحى أو يكاد .

 

المشكلة الأخرى

       والمصيبة في الباحثين في هذه اللغات الأجنبية، من العاملين بالجامعات أشد، إذ إنهم يكتبون بحوثهم وينشرونها في داخل البلاد العربية وخارجها، بهذه اللغات، ولايرضون الكتابة بالعربية أو لايجيدونها. وما في شعوب الأرض شعب ينسلخ علماؤه باللغات الأجنبية، عن لغتهم الوطنية، كما ينسلخ علماؤنا الأجلاء، فالمستشرقون الذين يجيدون العربية، لا يكتبون عنها إلا بلغاتهم. أما المستغربون عندنا، فما أقسى استغرابهم، وما أحوجهم إلى الرثاء!

       وترتبط هذه المشكلة في رأيي بمشكلة أخرى، وهي ضعف الدارسين بمدارسنا وجامعاتنا في اللغة العربية. وهذه المشكلة مزمنة طال عليها الأمد، وحارت العقول في البحث عن علتها، والإشارة إلى موطن الداء فيها.

       وأحب أن أشير في بداية حديثي إلى أن هذه المشكلة، لاتخص قطرًا عربيًا، دون آخر، بل هي قاسم مشترك بين جميع البلدان، التي تتكلم العربية. وأقصى ما كانت تمتد إليه يد الإصلاح في هذه المشكلة، هو الكتب المدرسية، والمصطلحات النحوية، ثم يتعجب المصلحون، حين يرون هذا الإصلاح لم يؤت ثماره المرجوة، ويشاهد انحدار المستوى يومًا بعد يوم، كأننا أمام بئر ينضب ماؤها بالتدريج، ولاشيء يرفُدها ويصلح من شأنها، ولو استمر الحال على ذلك، لجاء يوم قريب، تشيع فيه الأمية بين حملة الشهادات العليا.

       ولقد التقيت قبل عدة أعوام، وواحدًا من المستشرقين الألمان، فذكر لي أنه تقابل مع بعض خريجي الجامعات عندنا في مصر، فتعجب من أنهم لايقيمون جملة عربية، ولا يدرون شيئًا عن تراثهم، ولم يقرءوا للجاحظ، أو لابن قتيبة، أو للمبرد، ومن إليهم من أعلام العربية. وتلك للأسف حقيقة مُفْجِعة!.

       وليس هناك من شعب على ظهر الأرض، قد استهان بلغته، كما استهان العرب بلغتهم. وقد ظن القوم أن إتقان هذه اللغة، والتزام الصواب في استعمالها، من شأن معلمي العربية وحدهم، فترى الطبيب أو المهندس، أو حتى أستاذ الجامعة في غير قسم اللغة العربية، إذا حاول التحدث بالفصحى في مواقف الجد من القول، يبدو كأنه غريب عن اللغة، يفيض حديثه باللحن والخطأ واضطراب العبارة.

       ولايحدث هذا الأصحاب أية لغة غير العربية، فإنك تعجب للمهندس الألماني مثلاً، حين يحدثك بلغة ألمانية عالية، بلا ارتباك أو اضطراب، وحين يجادلك في تاريخ الأدب الألماني، والحكم على شعرائه وناثريه، مع أنه قد يتحدث مع مواطنيه في شؤون الحياة العامة، بلهجة بأقارية، أو برلينية، أوغيرها من اللهجات الألمانية الكثيرة .

       والأساس في كل ذلك يكمن في جدّ القوم، حين يدرسون لغتهم الأدبية في مدارسهم وجامعاتهم، وإيمانهم بقيمتها وحقها في الحياة، وافتخارهم بانتسابهم إليها، وتحدثهم بها. ويتجلى ذلك في تمسكهم باستخدامها حتى مع الأجانب، وإن كان كثير منهم يجيد اللغة الإنجليزية كذلك. وشتان بين حالنا وحالهم، حين يفد الأجنبي إلى بلادنا، فنتهافت على التحدث إليه، بما أسعفتنا قدراتنا المختلفة من لغات أجنبية مكسرة، بل ما أشد بؤسنا حين يجلس العربي إلى أخيه العربي فلا يطاوعه لسانه على الحديث السليم بالعربية، وإنما يرقعه بين الحين والحين بعبارات وتراكيب نصف ملحونة من اللغات الأجنبية، التي بقي بعض الشيء من فتاتها على مائدته، ويا للخجل!

 

بين الأمس واليوم

       إن الحالة لتزداد في كل يوم سوءًا، بعزوف المتعلمين عندنا عن القراءة المفيدة، حتى إذا قرءوا اقتصرت قراءاتهم على تلك اللغة الرديئة، التي تفيض بها أعمدة الصحف والمجلات .

       وإذا أخذك العجب من كلامي هذا، فاسأل الشباب: ماذا تقرءون من تراثنا الأدبي الضخم، وما مدى علمكم بنحو اللغة وصرفها، ودلالة ألفاظها وأسرار تراكيبها، وبلاغة أساليبها؟ ولابد أنك ستألم حين تعرف أن أكثر هؤلاء الشباب، الذي يسمى نفسه بالشباب المثقَّف، لاتتعدى ثقافته صفحات الكرة والفن والحوادث في المجلات والصحف، وبعض القصص الرخيص، الذي كتب بلغة بهلوانية، لاتمت إلى العربية الفصحى بصلة .

       وقد لاحظنا في العقود الأخيرة من هذا القرن، كيف اقتحمت العامية على الفصحى حصونها في اللغة المكتوبة، التي تنقل لنا خطبة لمسؤول، أو حديثًا جرى في لقاء أو ندوة من الندوات.. لقد كان بعض أعضاء مجلسى النواب والشيوخ، يقحمون بعض جمل العامية في حديثهم بالفصحى، تحت قبة البرلمان، في النصف الأول من هذا القرن العشرين؛ ولكن صحيفة واحدة من صحف ذلك الزمان الغابر، لم تكن تجرؤ على نشر هذه الجمل العامية، ضمن ما تنشر من نص الخطبة أو الحديث، وإنما تنقلها إلى ما يقابلها في العربية الفصحى؛ لأن الناس كانوا يحترمون هذه الفصحى في كتاباتهم، ولا يرضون بها بديلاً .

       أما اليوم، فإننا قد ألفنا هذا الأمر المستهجن في الصحف والمجلات؛ بل إن معظم إعلانات التليفزيون تكتب بهذه العاميات الركيكة: الكيلو بخيره، والشمعدان بيحبك، وكوالتي يا فندم كوالتي، ونضافة امبارح ما تنفعش، ونضافة النهاردة تزغلل!.

       وانتشرت ظاهرة أخرى جديدة تمامًا على الشارع المصري؛ إذ يبدو أن الأجانب عندنا قد تعلموا الخط العربي وأجادوه، ولذلك ترى المجلات المختلفة في شوارع القاهرة، تكتب الكلمات الإنجليزية، بالخط العربي وحده، دون الخط اللاتيني في اللافتات وإلا فلماذا كتب صاحب محل من محلات بيع الزهور في وسط القاهرة عبارة: "فريش فلاورز" بالخط العربي وحده على واجهة المحل؟!

       ألم يحن الوقت، لكي يدرك العربي، أن في حياة لغته الفصحى حياة لكل مقوماته، وتاريخه، وفكره، وتراثه العظيم؟ إن أصحاب اللغات الأخرى يعتزون بلغاتهم، ونحن أولى منهم بهذا الاعتزاز بفصحانا؛ لأنها لغة القرآن العظيم.

*  *  *

*  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . شعبان 1429هـ = أغسطس  2008م ، العـدد : 8  ، السنـة : 32